كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَصْلٌ:
قولهُ: {فذكر إنْ نَفَعَتْ الذكرى سَيذكر مَنْ يخشى وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الَّذي يَصْلَى النَّارَ الكبرى} فَقولهُ: {إنْ نَفَعَتْ الذكرى} كَقولهِ: إنَّ الذكرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقولهُ: {إنْ نَفَعَتْ الذكرى} و{إن} هِيَ الشَّرْطِيَّةُ.
وَحَكَى الماوردي أَنَّهَا بِمَعْنَى (ما).
وَهَذِهِ تَكُونُ (ما) الْمَصْدَرِيَّةُ. وَهِيَ بِمَعْنَى الظَّرْفِ، أَيْ: ذَكِّرْ مَا نَفَعَتْ، مَا دَامَتْ تَنْفَعُ. وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ. وَأَمَّا إنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّهَا نَافِيَةٌ فَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْفِي نَفْعَ الذكرى مُطْلَقًا وَهُوَ الْقَائِلُ: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومِ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنْفَعُ} ثُمَّ قال: {الْمُؤْمِنِينَ}....
وعن... {فذكر إنْ نَفَعَتْ الذكرى}: إنْ قَبِلْت الذكرى.
وعن مُقَاتِلٍ: فذكر وَقَدْ نَفَعَتْ الذكرى.
وقيل: ذَكِّرْ إنْ نَفَعَتْ الذكرى وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ.
قالهُ طَائِفَةٌ، أَوَّلُهُمْ الْفَرَّاءُ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ النَّحَّاسُ، وَالزَّهْرَاوِيُّ. وَالواحديُّ. والبغوي وَلَمْ يذكر غَيْرَهُ.
قالوا: وَإِنَّمَا لَمْ يذكر الْحَالَ الثانية كَقولهِ: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} وَأَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ. وَإِنَّمَا قالوا هَذَا لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ جَمِيعِ الْخلق وَتَذْكِيرُهُمْ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا. فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ التَّذْكِيرِ مُخْتَصًّا بِمَنْ تَنْفَعُهُ الذكرى كَمَا قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فذكر إنَّمَا أَنْتَ مذكر لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر} وَقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} وَقال: {وَيَقولونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وَقال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذيرًا}. وَهَذَا الَّذي قالوهُ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَهُوَ قول الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْهُ أحد مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ. وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يُنْكِرُ على الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ مَا يُنْكِرُهُ وَيَقول: كُنْت أَحْسَبُ الْفَرَّاءَ رَجُلًا صَالِحًا حَتَّى رَأَيْت كتابهُ فِي مَعَانِي القرآن. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذي قالوهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِآيَاتِ أُخَرٍ. وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ مُبَلِّغًا وَمذكرا لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. بَلْ مَعْنَى هَذِهِ يُشْبِهُ قولهُ: {فذكر بِالقرآن مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وَقولهُ: {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وَقولهُ: {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغيب} وَقوله: {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فَالقرآن جَاءَ بِالْعَامِّ وَالْخَاصِّ. وَهَذَا كَقولهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيمَ وَالتَّذْكِيرَ وَالْإِنْذَارَ وَالْهُدَى وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ فَاعِلٌ وَلَهُ قَابِلٌ. فَالْمُعَلِّمُ الْمذكر يُعَلِّمُ غَيْرَهُ ثُمَّ ذَلِكَ الْغَيْرُ قَدْ يَتَعَلَّمُ وَيَتَذَكَّرُ وَقَدْ لَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يَتَذَكَّرُ. فَإِنْ تَعَلَّمَ وَتَذَكَّرَ فَقَدْ تَمَّ التَّعْلِيمُ وَالتَّذْكِيرُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ فَقَدْ وُجِدَ أحد طَرَفَيْهِ وَهُوَ الْفَاعِلُ دُونَ الْمَحَلِّ الْقَابِلِ. فَيُقال فِي مِثْلِ هَذَا: عَلَّمْته فَمَا تَعَلَّمَ وَذَكَّرْته فَمَا تَذَكَّرَ وَأَمَرْته فَمَا أَطَاعَ. وَقَدْ يُقال (مَا عَلَّمْته وَمَا ذَكَّرْته) لِأَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ تَامًّا وَلَمْ يُحَصِّلْ مَقْصُودَهُ فَيُنْفَى لأنتِفَاءِ كَمَالِهِ وَتَمَامِهِ. وَانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِ السَّامِعِ وَإِنْ كَانَتْ الْفَائِدَةُ حَاصِلَةً لِلْمُتَكَلِّمِ الْقَائِلِ الْمُخَاطَبِ. فَحَيْثُ خُصَّ بِالتَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَنَحْوِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ مَخْصُوصُونَ بِالتَّامِّ النَّافِعِ الَّذي سَعِدُوا بِهِ. وَحَيْثُ عُمم فَالْجَمِيعُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْإِنْذَارِ الَّذي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ على الْخلق سَوَاءٌ قَبِلُوا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوا.
وَهَذَا هُوَ الْهُدَى الْمَذْكُورُ فِي قولهِ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى على الْهُدَى} فَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ الْعَامُّ الْمُشْتَرَكُ. وَهُوَ كَالْإِنْذَارِ الْعَامِّ وَالتَّذْكِيرِ الْعَامِّ. وَهُنَا قَدْ هَدَى الْمُتَّقِينَ وَغَيْرَهُمْ كَمَا قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وَأَمَّا قولهُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فَالْمَطْلُوبُ الْهُدَى الْخَاصُّ التَّامُّ الَّذي يَحْصُلُ مَعَهُ الِاهْتِدَاءُ كَقولهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَقولهِ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} وَقولهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} وَقولهِ: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} وَهَذَا كَثِيرٌ فِي القرآن. وَكَذَلِكَ الْإِنْذَارُ قَدْ قال: {فَإِنَّمَا يسرنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} وَقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذينَ آمَنُوا} وَقال فِي الْخَاصِّ: {إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}، {إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغيب} فَهَذَا الْإِنْذَارُ الْخَاصُّ وَهُوَ التَّامُّ النَّافِعُ الَّذي انْتَفَعَ بِهِ الْمُنْذِرُ. وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ فَعَلِمَ الْمَخُوفُ فَخَافَ فَآمَنَ وَأَطَاعَ. وَكَذَلِكَ التَّذْكِيرُ عَامٌّ وَخَاصٌّ. فَالْعَامُّ هُوَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ إلَى كُلِّ أحد وَهَذَا يَحْصُلُ بِإِبْلَاغِهِمْ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنْ الرِّسَالَةِ.
قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}.
وقال تعالى: {وَمَا هِيَ إلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}.
وقال تعالى: {إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}. ثُمَّ قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فذكر الْعَامَّ وَالْخَاصَّ.
وَالتَّذَكُّرُ هُوَ الذِّكْرُ التَّامُّ الَّذي يذكرهُ الْمذكر بِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ. وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قال تعالى فِيهِمْ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} وَقال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} فَقَدْ أَتَاهُمْ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ وَلَكِنْ لَمْ يَصْغَوْا إلَيْهِ بِقُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَفْهَمُوهُ أَوْ فَهِمُوهُ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ كَمَا قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وَالْخَاصُّ هُوَ التَّامُّ النَّافِعُ وَهُوَ الَّذي حَصَلَ مَعَهُ تَذَكُّرٌ لِمذكر فَإِنَّ هَذَا ذِكْرَى كَمَا قال: {فذكر إنْ نَفَعَتِ الذكرى سَيذكر مَنْ يخشى وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} أَيْ يُجَنَّبُ الذكرى وَهُوَ إنَّمَا جُنِّبَ الذكرى الْخَاصَّةَ. وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ الَّذي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَقَدْ ذُكِّرَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِذَلِكَ وَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقال عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {كُلما أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذيرٌ قالوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} وَقال تعالى: {يَا مَعشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يومكُمْ هَذَا قالوا شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا}. وَأَمَّا تَمْثِيلُهُمْ ذَلِكَ بِقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أَيْ وَتَقِيَكُمْ الْبَرْد فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أحدهما: أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَرْفُ شَرْطٍ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ بِخِلَافِ هَذَا الْمَوْضِعِ. فَإِنَّهُ إذَا عُلِّقَ الْأَمْرُ بِشَرْطِ وَكَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ كَانَ ذِكْرُ الشَّرْطِ تَطْوِيلًا لِلْكَلَامِ تَقْلِيلًا لِلْفَائِدَةِ وَإِضْلَالًا لِلسَّامِعِ. وَجُمْهُورُ النَّاسِ على أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ حُجَّةٌ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ يَقول: سَكَتَ عَنْ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ لَا يَقول: إنَّ اللَّفْظَ دَلَّ على الْمسكوتِ كَمَا دَلَّ على الْمَنْطُوقِ. فَهَذَا لَا يَقولهُ أحد. الثَّانِي: أَنَّ قوله: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} على بَابِهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْبَرْدِ. وَإِنَّمَا يَقول (إنَّ الْمعطوف مَحْذُوفٌ) هُوَ الْفَرَّاءُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْأَئِمَّةُ حَيْثُ يُفَسِّرُونَ القرآن بِمُجَرَّدِ ظَنِّهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِنَوْعِ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَهُمْ. وَكَثِيرًا لَا يَكُونُ مَا فَسَّرُوا بِهِ مُطَابِقًا. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ على ذِكْرِ الْبَرْدِ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إنْعَامَهُ على عِبَادِهِ وَتُسَمَّى (سُورَةُ النِّعَمِ) فذكر فِي أَوَّلِهَا أُصُولَ النِّعَمِ الَّتِي لابد مِنْهَا وَلَا تَقُومُ الْحَيَاةُ إلَّا بِهَا وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ. وَكَانَ مَا يَقِي الْبَرْدَ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ فذكر فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}. فَالدِّفْءُ مَا يُدْفِئُ وَيَدْفَعُ الْبَرْدَ. وَالْبَرْدُ الشديد يُوجِبُ الْمَوْتَ بِخِلَافِ الْحَرِّ. فَقَدْ مَاتَ خلق مِنْ الْبَرْدِ بِخِلَافِ الْحَرِّ فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ. وَلِهَذَا قال بَعْضُ الْعَرَبِ الْبَرْدُ بُؤْسٌ وَالْحَرُّ أَذًى. فَلما ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ ذَكَرَ الظِّلَالَ وَمَا يَقِي الْحَرَّ وَذَكَرَ الْأَسْلِحَةَ وَمَا يَقِي الْقتل فَقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خلق ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجبال أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. فذكر أَنَّهُ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَقال: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. وَفَرْقٌ بَيْنَ الظِّلَالِ وَالْأَكْنَانِ؛ فَإِنَّ الظِّلَالَ يَكُونُ بِالشَّجَرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُظِلُّ وَلَا يُكِنُّ بِخِلَافِ مَا فِي الجبال مِنْ الْغَيْرَانِ فَإِنَّهُ يُظِلُّ وَيُكَنُّ. فَهَذَا فِي الْأَمْكِنَةِ ثُمَّ قال فِي اللِّبَاسِ: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} فَهَذَا فِي اللِّبَاسِ. وَاللِّبَاسُ وَالْمَسَاكِنُ كِلَاهُمَا تَقِي النَّاسَ مَا يُؤْذيهِمْ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَعَدُوٍّ وَكِلَاهُمَا تَسْتُرُهُمْ عَنْ أَعين النَّاظِرِينَ. وَفِي الْبُيُوتِ خَاصَّةً يَسْكُنُونَ كَمَا قال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يوم ظَعْنِكُمْ وَيوم إقَامَتِكُمْ}. فَلما ذَكَرَ الْبُيُوتَ الْمسكونَةَ امْتَنَّ بِكَوْنِهِ جَعَلَهَا سَكَنًا يَسْكُنُونَ فِيهَا مِنْ تَعَبِ الْحَرَكَاتِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ بُيُوتًا أُخْرَى يَحْمِلُونَهَا مَعَهُمْ ويستخفونها يوم ظَعْنِهِمْ وَيوم إقَامَتِهِمْ. فذكر الْبُيُوتَ الثَّقِيلَةَ الَّتِي لَا تُحْمَلُ وَالْخَفِيَّةَ الَّتِي تُحْمَلُ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا مَثَّلُوا بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. فَقولهُ: {إنْ نَفَعَتِ الذكرى}- كَمَا قال مُفَسِّرُو السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ- على بَابِهَا قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: تَذْكِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَحُجَّةٌ على الْكَافِرِ.
وَعلى هَذَا فَقولهُ تعالى: {إنْ نَفَعَتِ الذكرى} لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْكَافِرِ يُبَلِّغُ القرآن لِوُجُوهِ. أحدهَا: أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ لَكِنْ قال: {فذكر} وَهَذَا مُطْلَقٌ بِتَذْكِيرِ كُلِّ أحد. وَقولهُ: {إنْ نَفَعَتِ الذكرى} لَمْ يَقُلْ (إنْ نَفَعَتْ كُلَّ أحد). بَلْ أَطْلَقَ النَّفْعَ. فَقَدْ أَمَرَ بِالتَّذْكِيرِ إنْ كَانَ يَنْفَعُ. وَالتَّذْكِيرُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ يَنْفَعُ. فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَذَكَّرُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ وَالْآخَرُ تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَيَسْتَحِقُّ الْعذاب على ذَلِكَ فَيَكُونُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ بِتَذْكِيرِهِ نَفْعٌ أيضًا. وَلِأَنَّهُ بِتَذْكِيرِهِ تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَتَجُوزُ عُقُوبَتُهُ بَعْدَ هَذَا بِالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ فَتَحْصُلُ بِالذكرى مَنْفَعَةٌ. فَكُلُّ تَذْكِيرٍ ذَكَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُشْرِكِينَ حَصَلَ بِهِ نَفْعٌ فِي الْجملة وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذينَ قَبِلُوهُ وَاعْتَبَرُوا بِهِ وَجَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ..
فإن قيل: فَعلى هَذَا كُلُّ تَذْكِيرٍ قَدْ حَصَلَ بِهِ نَفْعٌ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّقْيِيدِ؟
قِيلَ: بَلْ مِنْهُ مَا لَمْ يَنْفَعْ أَصْلًا وَهُوَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَذَلِكَ كَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ كَأَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ قوله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} فَإِنَّهُ لَا يُخَصُّ بِتَذْكِيرِ بَلْ يُعْرَضُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَصْغَ إلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَمِعْ لِقولهِ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَنْهُ كَمَا قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} ثُمَّ قال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فَهُوَ إذَا بَلَّغَ قَوْمًا الرِّسَالَةَ فَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ امْتَنَعُوا مِنْ سَمَاعِ كَلَامِهِ أَعْرَضَ عَنْهُمْ. فَإِنَّ الذكرى حِينَئِذٍ لَا تَنْفَعُ أحدا. وَكَذَلِكَ مَنْ أَظْهَرَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي فَإِنَّهُ لَا يُكَرِّرُ التَّبْلِيغَ عَلَيْهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّذْكِيرِ أَمْرٌ بِالتَّذْكِيرِ التَّامِّ النَّافِعِ كَمَا هُوَ أَمْرٌ بِالتَّذْكِيرِ الْمُشْتَرَكِ. وَهَذَا التَّامُّ النَّافِعُ يَخُصُّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْتَفِعين. فَهُمْ إذَا آمَنُوا ذَكَّرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ وَكُلما أُنْزِلَ شَيْءٌ مِنْ القرآن ذَكَّرَهُمْ بِهِ وَيذكرهُمْ بِمَعَانِيهِ وَيذكرهُمْ بِمَا نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ. بِخِلَافِ الَّذينَ قال فِيهِمْ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يذكرهُمْ كَمَا يذكر الْمُؤْمِنِينَ إذَا كَانَتْ الْحُجَّةُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ التَّذْكِرَةِ لَا يَسْمَعُونَ. وَلِهَذَا قال.
{عبس وَتولى أَنْ جاءه الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لعله يَزَّكَّى أَوْ يذكر فتنفعه الذكرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يخشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} فَأَمَرَهُ أَنْ يُقْبِلَ على مَنْ جاءه يَطْلُبُ أَنْ يَتزكى وَأَنْ يَتَذَكَّرَ. وَقال: {سَيذكر مَنْ يخشى} إلَى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى} فذكر التَّذَكُّرَ وَالتَّزَكِّي كَمَا ذَكَرَهُمَا هُنَاكَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْبِلَ على مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِالذكرى دُونَ ذَاكَ. فَيَكُونُ مَأْمُورًا أَنْ يذكر الْمُنْتَفِعين بِالذكرى تَذْكِيرًا يَخُصُّهُمْ بِهِ غَيْرَ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ الَّذي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ كَمَا قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}. وَقال: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قرأ القرآن سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَسَبُّوا القرآن وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقال اللَّهُ لَهُ: «وَلَا تَجْهَرْ بِهِ فَيَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَا تُخَافِتْ بِهِ عَنْ أَصْحَابِك». فَنَهَى عَنْ أَنْ يُسْمِعَهُمْ إسْمَاعًا يَكُونُ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ مِنْ نَفْعِهِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ لابد أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً على مَفْسَدَتِهِ وَالْمَصْلَحَةُ هِيَ الْمَنْفَعَةُ وَالْمَفْسَدَةُ هِيَ الْمَضَرَّةُ. فَهُوَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالتَّذْكِيرِ إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ رَاجِحَةً وَهُوَ أَنْ تَحْصُلَ بِهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ على الْمَضَرَّةِ. وَهَذَا يَدُلُّ على الْوَجْهِ الْأَوَّلِ والثاني. فَحَيْثُ كَانَ الضَّرَرُ رَاجِحًا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَمَّا يَجْلِبُ ضَرَرًا رَاجِحًا. وَالنَّفْعُ أَعَمُّ فِي قَبُولِ جَمِيعِهِمْ فَقَبُولُ بَعْضِهِمْ نَفْعٌ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ على مَنْ لَمْ يَقْبَلْ نَفْعٌ وَظُهُورُ كَلَامِهِ حَتَّى يُبَلِّغَ الْبَعِيدَ نَفْعٌ وَبَقَاؤُهُ عِنْدَ مَنْ سَمِعَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ نَفْعٌ. فَهُوَ صلى الله عليه وسلم مَا ذَكَّرَ قَطُّ إلَّا ذِكْرَى نَافِعَةً لَمْ يذكر ذِكْرَى قَطُّ يَكُونُ ضَرَرُهَا رَاجِحًا. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لابد أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً وَمَنْفَعَتُهُ رَاجِحَةً. وَأَمَّا مَا كَانَتْ مُضَرَّتُهُ رَاجِحَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ. وَأَمَّا جَهْمٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ فَيَقولونَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَكُونُ ضَرَرًا مَحْضًا إذَا فَعَلَهُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ على ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْمُتَكَلِّمِينَ- أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي مَسَائِلِ الْقدر فَنَصَرَ مَذْهَبَ جَهْمٍ وَالْجَبْرِيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قولهُ: {الذكرى} يَتَنَاوَلُ التَّذَكُّرَ وَالتَّذْكِيرَ. فَإِنَّهُ قال: {فذكر إنْ نَفَعَتِ الذكرى}. فلابد أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ تَذْكِيرَهُ.
ثُمَّ قال: {سَيذكر مَنْ يخشى وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى}. وَاَلَّذي يَتَجَنَّبُهُ الأشقى هُوَ الَّذي فَعَلَهُ مَنْ يخشى وَهُوَ التَّذَكُّرُ. فَضمير الذكرى هُنَا يَتَنَاوَلُ التَّذَكُّرَ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ التَّذْكِيرِ الَّذي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَتَجَنَّبْهُ أحد. لَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِتَجَنُّبِهَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إلَيْهَا وَلَمْ يُصْغِ كَمَا قال: {لَا تسمعوا لِهَذَا القرآن وَالْغَوْا فِيهِ}. وَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِوُجُودِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّدَبُّرِ لَا بِنَفْسِ الِاسْتِمَاعِ. فَفِي الْكُفَّارِ مَنْ تَجَنَّبَ سَمَاعَ القرآن وَاخْتَارَ غَيْرَهُ كَمَا يَتَجَنَّبُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَمَاعَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكتاب وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ إذَا ذُكِّرُوا فَتَذَّكَّرُوا كَمَا قال: {سَيذكر مَنْ يخشى}. فَلما قال: {فذكر إنْ نَفَعَتِ الذكرى} فَقَدْ يُرَادُ بِالذكرى نَفْسُ تَذْكِيرِهِ تَذَكَّرَ أَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ. وَتَذْكِيرُهُ نَافِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ تَوْبِيخَ مِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ مِنْ قُرَيْشٍ قال ابْنُ عَطِيَّةَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى قولهِ: {فذكر إنْ نَفَعَتِ الذكرى} فَقال الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ وَالزَّهْرَاوِيُّ: مَعْنَاهُ (وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ) فَاقْتَصَرَ على الِاسْمِ الواحد لِدَلَالَتِهِ على الثَّانِي.
قال وَقال بَعْضُ الْحُذَّاقِ: قولهُ: {إنْ نَفَعَتِ الذكرى} اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ على جِهَةِ التَّوْبِيخِ لِقُرَيْشِ. أَيْ إنْ نَفَعَتْ الذكرى فِي هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ. وَهَذَا كَنَحْوِ قول الشَّاعِرِ:
لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ نَادَيْت حَيًّا ** وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي

وَهَذَا كُلُّهُ كَمَا تَقول لِرَجُلِ: (قُلْ لِفُلَانِ وَاعْذُلْهُ إنْ سَمِعَك) إنَّمَا هُوَ تَوْبِيخٌ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ.
قُلْت: هَذَا الْقَائِلُ هُوَ الزمخشري وَهَذَا الْقول فِيهِ بَعْضُ الْحَقِّ. لَكِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَاكَ الْقول مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْقول أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَذْكِيرِ مَنْ لَا يَقْبَلُ وَلَا يَنْفَعُ بِالذكرى دُونَ مَنْ يَقْبَلُ كَمَا قال: (إنْ نَفَعَتْ الذكرى فِي هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ) وَكَمَا أَنْشَدَهُ فِي الْبَيْتِ.